الإنتروبي من العشوائية إلى سهم الزمن والكوزمولوجيا ..

معلومات عامة  -  بواسطة:   اخر تحديث:  2020/10/24
الإنتروبي من العشوائية إلى سهم الزمن والكوزمولوجيا ..

رأينا في المرة السابقة كيف أدت دراسة المحركات البخارية إلى اكتشافنا لمفهوم الإنتروبي، وهي كمية فيزيائية غامضة تتزايد دائماً في السيرورات الطبيعية (أي العمليات اللا عكوسة) في أي جملة معزولة. وهذا ما يجعل الحرارة مثلاً تنتقل تلقائياً من الجسم الساخن إلى الجسم البارد وليس العكس، لأن انتقال الحرارة يحصل بالاتجاه الذي يزيد من الإنتروبي. ولكن بقي لدينا سؤال عالق هنا، ألا وهو: ما هي طبيعة الإنتروبي وما منشؤها؟


في هذا المقال سنجيب عن هذا السؤال بالذات، ونرى العواقب المترتبة على هذه الإجابة فيما يتعلق بفهمنا للكون وطريقة عمله.


فهم الإنتروبي الغامضة


تصل قصتنا الآن إلى أحد أهم الفيزيائيين عبر التاريخ بحق، ألا وهو الفيزيائي النمساوي لودفيغ بولتزمان §. حيث أن الفضل يعود لهذا الرجل في اكتشاف منشأ القانون الثاني في الترموديناميك (والذي كنا قد تحدثنا عنه في المقال السابق)، وفي الفهم العميق لماهية الإنتروبي.


ولفهم ما جاء به بولتزمان، لنتخيل أن لدينا وعاءً ذو حجم ثابتٍ يحوي كميةً معينةً من بخار الماء، موجودة في حالة توازن، أي لها نفس درجة الحرارة والضغط في كامل أجزائها. سنلاحظ عندها أننا نصف هذه الكمية المحددة من بخار الماء بقيمة محددة لحجمها، وقيمة تعطينا ضغطها، إضافة لقيمة تعطينا درجة حرارتها. ونقول أنّ هذه القيم تعين حالة محددة لبخار الماء.


وكلما تغيرت واحدة أو أكثر من هذه القيم، ستتغير حالته. والآن، لو تساءلنا هنا يا ترى، وبما أن بخار الماء مكون من عدد هائل للغاية من الجزيئات، فبكم طريقة يمكن أن تترتب مواضع هذه الجزيئات وسرعاتها داخل هذه العينة، كي تعطينا هذه القيم المحددة للضغط والحجم ودرجة الحرارة؟ من الواضح أنه عدد كبير للغاية من الطرق. وهذا العدد يدعى بالوزن الإحصائي لهذه الحالة لبخار الماء.


وبشكل أعم، إذا كانت لدينا جملة معينة في حالة توازن، فإن عدد الطرق التي يمكن أن تترتب فيها مواضع وسرعات الجزيئات أو الذرات المكونة لها كي تعطي حالة محددة للجملة (ولنتذكر أن هذه الحالة تحدد بدرجة حرارة معينة وحجم معين و…الخ) يدعى بالوزن الإحصائي لهذه الحالة.


وبما أنه لا يوجد لدينا أي سبب يجعلنا نميز إحدى طرق ترتيب الجزيئات عن غيرها وذلك من ناحية احتمالية حدوثها، لذلك ينتج أن الحالات التي لها وزن إحصائي أكبر (أي يمكن أن نحصل عليها بعدد كبير من الطرق لترتيب الجزيئات) ستتمتع باحتمال أكبر للحدوث.


وهنا تجلّت عبقرية بولتزمان: فقد بين أن الحالات ذات الوزن الإحصائي الأكبر تتمتع بإنتروبي أعلى، بكلمات أخرى، فإن الحالات ذات الإنتروبي الأعلى لها احتمال أكبر للحدوث! هل لاحظتم ما حصل؟ معنى ذلك أن الجمل تسعى لأن تكون في الحالات ذات الإنتروبي الأعلى لأنها ببساطة هي الحالات ذات الاحتمال الأكبر في الحدوث، وحالة التوازن في الجمل المعزولة والتي تقابل قيمة عظمى للإنتروبي لها أكبر احتمال في الحدوث بين جميع الحالات!


وهنا، وبهذه البساطة، نجد أن منشأ القانون الثاني في الترموديناميك، والذي ينص على تزايد الإنتروبي في الجمل المعزولة حتى تصل لقيمة عظمى عند التوازن، هو أن الجمل ببساطة تسعى لأن تكون في الحالات التي لها احتمال أكبر للحدوث!§


الآن نفهم السبب في أنني لو أمسكت بلوح زجاجي، ثم تركته يسقط من يدي وتهشّم، ثم بعدها جمعت كسر الزجاج ورميتها فلماذا لا أحصل على اللوح الزجاجي من جديد مهما حاولت. إذ أن هناك عدداً أكبر بما لا يقاس من الطرق التي يمكن أن يتواجد فيها الزجاج على شكل كسرات وهو مهشم، من العدد المقابل من الحالات للوح زجاجيّ سليم وغير مكسور. بكلمات أخرى، حالة اللوح غير المكسور هي حالة ذات إنتروبي أخفض بكثير من حالة الزجاج المهشم، ولذلك من شبه المستحيل أن أحصل عليها بهذه الطريقة انطلاقاً من الزجاج المهشم.


إن نفس الأمر ينطبق على انتشار غاز في الحيز الذي يمنح له: فلو فتحنا باب غرفة مخلّاة من الهواء، لاندفع الهواء ليملأها كلها. في حين أننا لا نرى الهواء الموجود في غرفة ما يتجمع كله في زاوية لها تاركاً الناس الموجودين ضمنها يموتون اختناقاً؛ إذ أن هكذا عملية تتطلب تناقصاً في الإنتروبي مما يخرق القانون الثاني في الترموديناميك.


هنا قد يقول قائل: بما أن الأمر أصبح احتمالياً بحتاً، فمن الممكن إذاً أن تتناقص الإنتروبي في جملة معزولة ونشهد إحدى هذه الظواهر الغريبة التي ذكرت أعلاه على أنها لا يمكن أن تحدث. إن هذا الكلام صحيح من الناحية النظرية، إلا أن الكبر الهائل لعدد الجزيئات في الجمل المذكورة أعلاه يجعل احتمال حصول إحدى تلك الحوادث صغيراً لدرجة يصعب تخيلها للغاية، الأمر الذي يعني أننا يجب أن ننتظر زمناً طويلاً بشكل لا يعقل كي نشهد إحدى تلك الظواهر تحصل مرة واحدة!


الإنتروبي كمقياس للعشوائية


والآن، وعود على بدء، فقد كنا قد قلنا أنّ إحدى أشهر الأوصاف التي تعطى للإنتروبي، هي أنها مقياس للعشوائية. فما هو جذر هذا الكلام؟§


تخيل أن لدينا رزمة اعتيادية من ورق الشدّة، وطلبت منك أن تسحب أربع ورقات على التتالي وتضعها في يدك، عندها ما احتمال أن تكون هذه الورقات الأربع تحمل الرقم 2؟ إنه احتمال صغير للغاية يقارب 0.000004. في حين أن احتمال ألّا تكون الأوراق جميعاً تحمل رقم 2 هو في هذه الحالة حوالي 0.999996. فلماذا ذلك؟


إن السبب هو أنه في الحالة الأولى ستكون لدينا حالة عالية التنظيم للأوراق، في حين أن الحالة الثانية مثلت ترتيباً عشوائياً لها. إن الحالات المنظمة تتمتع باحتمال أقل للحدوث، لأننا نفرض عليها كي تحدث تحقق العديد من الشروط معاً، في حين أن مثل هذه الشروط تغيب عن الحالات العشوائية. هذا هو الأمر الذي يجعل البناء (صنع شيء منظم) أصعب من الهدم (لأنه يعيده لحالة عشوائية) فقد يستغرق بناء مبنى أشهراً طويلةً، إلا أن صاروخاً أو قذيفة أو زلزالاً قد يخرب أجزاء كبيرة منه وبسهولة نسبياً.


نفس الأمر يحصل فيما يتعلق بطرق ترتيب الجزيئات في جملة فيزيائية ما، بمعنى أنّ الحالات الأكثر عشوائية تتمتع باحتمال أكبر وبالتالي بإنتروبي أعلى، ولذلك يقال عن الإنتروبي أنها مقياس للعشوائية في الجمل الفيزيائية.


وعلى الرغم من أن هذا المعنى للإنتروبي قد يكون هو الأكثر شيوعاً، إلا أنه الأقل دقة من بين المعاني الأخرى لها، وذلك بسبب غياب تعريف دقيق متفق عليه للتنظيم والعشوائية في هذا السياق، ولكون بعض الحالات المنظمة تتمتع باحتمال عالٍ نسبياً قد يكون أعلى من احتمال بعض الحالات التي قد تصنف بأنها حالات عشوائية.


الإنتروبي وسهم الزمن


والآن، نأتي إلى أحد أعمق الحقائق حول الكون والمرتبطة بالإنتروبي. لو قمت الآن بتشغيل شريط فيديو لك لكرة تتدحرج على سطح طاولة أفقي وأملس، فلن تعلم فيما إذا كنت أشغل لك الشريط كما تم تصوير الكرة فعلاً أو أنني أشغله بالمقلوب. والسبب بسيط، وهو أن قوانين الفيزياء لا تميز بين الماضي والمستقبل.§


ولكن لو قمت بتشغيل شريط فيديو لك فترى فيه كسر الزجاج تتجمع معاً لتشكل لوحاً غير مكسور، فستعلم بأنني أشغل الشريط بالمقلوب. معنى ذلك أن تمييزك للماضي من المستقبل، مرتبط بتزايد الإنتروبي بحد ذاتها: فتزايد الإنتروبي يرافقه مرور الزمن للأمام! وبالتالي ما يميز بين الماضي والمستقبل هو أن المستقبل له إنتروبي أعلى من الماضي. ولولا وجود القانون الثاني في الترموديناميك، لما كان هناك هذا التمييز بين الماضي والمستقبل.


الخلاصة هي أن سهم الزمن (أي مروره من الماضي للمستقبل) سببه تزايد الإنتروبي في الكون. وهنا يُطرح سؤال هام للغاية: إذا كانت الإنتروبي في الكون تتزايد، فمعنى ذلك أنها كانت أخفض في الماضي، وبالتالي فالكون في مراحله المبكرة جداً كان في حالة من الإنتروبي المنخفضة للغاية وبالتالي كان في حالة بعيدة الاحتمال للحصول للغاية، إذًا ما هو سبب بداية الكون في حالة كهذه من الأساس؟ لا يوجد جواب متفق عليه بعد لهذه المشكلة إلا أن هناك العديد من الفرضيات في الكوزمولوجيا (علم الكون) التي تحاول حلها، ولكنني لن أتناولها هنا لأنها بعيدة قليلاً عن موضوع المقال.


خاتمة


لقد رأينا في هذا المقال منشأ القانون الثاني في الترموديناميك، والمعنى العميق للإنتروبي. إلا أن هذه ليست كل القصة. فالإنتروبي هي من العمومية والعمق بمكان، لدرجة أنها تأخذ العديد والعديد من المعاني والصور في الفيزياء. وفي المقال القادم والأخير في هذه السلسلة، سنتعرف على وجوه أخرى مذهلة بشكل رائع للإنتروبي.