الانطوائية والانفتاحية: كيف فسر العلم الصراع الداخلي بينهما؟

معلومات عامة  -  بواسطة:   اخر تحديث:  2020/10/23
الانطوائية والانفتاحية: كيف فسر العلم الصراع الداخلي بينهما؟

تخيل معي عزيزي القارئ أنّك في غرفةٍ بها مجموعة مِن الأشخاص منهم مَن تعرفهم جيدًا، وآخرين غُرباء عنك. وبالرغم مِن ذلك فأنتَ مُندمجٌ مع الجميع على حدٍ سواء، تتحدث مع هذا وتتعرف على ذاك، وابتسامتك ترتسم على وجهك بكلّ هدوءٍ. ورغم استمتاعك ببعض الوقت، إلا أنّك -مِن داخلك- تشعر بعدم ارتياح، وأنّ طاقتك تُستنفز تدريجيًا، وترغب في الفرار حالًا لقوقعتك الخاصة، لأنّك بطبيعتك تميل لأجواء الانطوائية بشكلٍ ما.


الأمر يبدو طبيعيًا، ولا يحمل أي تأويلٍ. شخصٌ يُمارس حياته بشكلٍ طبيعيٍّ، ويرغب في إعادة شحن طاقته من جديد، يرغب في شعور الطمأنينة الذي يجده في صُحبة كتاب أو مشاهدة فيلم أو حتى في الصمت -وحيدًا- بعيدًا عن أي صخبٍ. ولكنك تتساءل:  لماذا أنا الشخص الوحيد الذي انسحب فجأة؟ ولماذا يراني البعض انطوائيًا رغم اندماجي معهم؟


عزيزي القارئ، أنتَ لست وحدك. واسمح ليّ أنْ أُخبرك بأنّني شخصيًا يصفني البعض بالانطوائية والمُنعزلة، وصديقتي المُقربة تُلقبني بالمُتوحدة. كلّ هذا فقط لأنّني أقضي مُعظم وقتي بغرفتي بعيدًا عن صخبِ هذه الحياة، رغم كَوني شخصًا اجتماعيًا نوعًا ما. لذا دعني أُجيب عن كلّ أسئلتك خلال هذا المقال.


الانطوائية ليست مرضًا عقليًا أو خللًا نفسيًا


الانطوائية والانفتاحية: كيف فسر العلم الصراع الداخلي بينهما؟


كثيرًا ما يتم وصف الأشخاص الانطوائيين بالمُتوحدين، أو أشخاص يحتاجون علاجًا نفسيًا ليكونوا أكثر اندماجًا مع المجتمع. ولكن -بالتأكيد- مفهوم الانطوائية مختلفٌ تمامًا عن مفهوم التوحد. شأن الانطوائي كشأن غيره من المنفتحين؛ إنها طبيعة وفطرة بشرية ولكلّ طبيعة ميولها الخاصة ومميزاتها وتوجهاتها الشخصية. الميل إلي نمط الحياة الهادئ -بالطبع- ليس عيبًا أو جريمة. ونظرة المجتمع إلى أنّ الانفتاح هو ما يُساعد المرء على تحقيق أهدافه بالتأكيد هي نظرة خاطئة. البعض يعتقد أنّها نوعٌ من الخجل الاجتماعي، ولكنها أمرٌ مختلفٌ تمامًا عن كون المرءُ خجولًا، فالخجل ما هو إلا خوفٌ من حُكم أو انطباع المجتمع.


لكلّ شخصية مفتاحها ومدخلها الخاص لإطلاق عنانها نحو الإبداع؛ المنفتح يجد نفسه وسط التحفيز الاجتماعي، بينما الانطوائي يشعر بالحياة والقدرة على الإنتاج في بيئةٍ هادئةٍ بعيدةٍ عن صخب المجتمع. الانطوائية ليست حالة فردية أو نادرة، أنتَ نفسك عزيزي القارئ ستجد حولك الكثير من الانطوائين، فمِن كلِّ ثلاثة إلى أربعة أشخاص تعرفهم ستجد شخصًا انطوائيًا.


في كتاب الهدوء: قوة الانطوائيين في عالم لا يتوقف عن الكلام، للكاتبة والمُحاضِرة الأمريكية سوزان كين، تقول كين:


لا تُفكر في الانطوائية كشيءٍ يتطلب علاجًا. كُن وفيًا لطبيعتك الخاصة. إذا أردتَ القيامَ بالأشياءِ بطريقةٍ بطيئةٍ وثابتةٍ، فلا تدعْ الآخرين يُسللون إليك شعورًا أنّ عليك التسابُق. إذا كُنتْ تستمتع بالعُمق، فلا تُجبر نفسك على السّعي وراء الانفتاح. إذا كُنت تُفضل القيامَ بمهمةٍ واحدةٍ على تَعدُد المهام، فتمسك بأسلحتك. عدم التأثر -نسبيًا- بالمكافآت قوة لا تُحصى، لتمضي في طريقك الخاص.


العلم يحسم الجدل ويُفسر الاختلاف بين الانطوائية والانفتاحية


الانطوائية والانفتاحية: كيف فسر العلم الصراع الداخلي بينهما؟


الأمرُ يا رفاق ليس نفسيًا كما يدعي البعض، ولكن أمر الاختلاف بين طبيعة الشخصيتين يعود إلى أساسٍ بيولوجيٍّ مُرتبط بطريقة استجابة الدماغ لهرمونات معينة تفرزها خلايا المخ. فجهازنا العصبي هو الفيصل في تفسير الصّراع الجدليّ بين الانطوائية والانفتاح.


الاستجابة للدوبامين- Dopamine


يُمثل فرق الاستجابة للدوبامين أحد أهم التفسيرات التي تُفسر الاختلافات بين الشخصية الانطوائية والشخصية المُنفتحة. وكما معروف أنّ الدوبامين هو هرمون السعادة، وأحد النواقل العصبية التي تُفرزها خلايانا العصبية بشكلٍ طبيعيٍّ، وجزء من نظام المكافآت بالمخ-Reward system فتعمل على تعزيزِ المزاج والتحفيز، وتُساهم في الاستجابات العاطفية وعملية التّعلُم.


وعندما يتم إفرازه بكميةٍ كبيرةِ، يُصبح كلٌ من الانطوائين والانفتاحين أكثر انتباهًا لما يدور حولهم، وأكثر رغبةً في الحديث واستكشاف ما يحدث. ورغم أنّه لا يُوجد فرق في كمية الدوبامين المُفرَزة في أدمغة كلٍّ من الانطوائين والانفتاحين، إلا أنّ الاختلاف يَكمن في استجابة نظام المكافأة والتأثير الناتج عن تلك الاستجابة؛ حيث يكون أكثر نشاطًا في أدمغة الانفتاحين مقارنةً بأدمغة الانطوائين.


لنضرب مثالًا للتوضيح أكثر؛ فمثلًا عند الحصول على ترقية أو الفوز بشيءٍ ما، تكون ردة فعل الانفتاحين أكثر نشاطًا واندفاعًا، مع فيض من المشاعرِ الإيجابية. بينما الانطوائي يجد صعوبة في التّعبير عن مشاعره، ويرى أنّ كثرةَ الحماس والاندفاع؛ إرهاقٌ لا داعي منه. وهذا يُفسر لك عزيزي القارئ انسحابك فجأة مِن وسط مجموعة مِن الأشخاص رغم استمتاعك ببعض الوقت، لأنّك تكون قد حصلت على كفايتك وترغب في الراحة. أتفهم سلوكيات الانطوائية يا عزيزي؟


الأستيل كولين- Acetylcholine


ناقل عصبي آخر وهو الأستيل كولين والذي يُساهم -مع الدوبامين- في عملية التحفيز والاستمتاع. ولكن ما يُميز الأستيل كولين أنّه يُحفز الشعور الداخليّ بالرّضا والرّاحة في الانكفاء على الذات. فهو كوجبة مُفضَلة لأدمغة الانطوائيين؛ حيث يُعزز التركيز والتأمل والتفكير العميق لساعاتٍ دون أيّ مللٍ. وهذا ما يُساعد على تفسير تفضيل الانطوائين للحياة الهادئة بعيدًا عن المحفزات الخارجية. فالاستلقاء لقراءة كتاب أو مشاهدة فيلم في هدوءٍ تامٍ كفيلٌ بتعزيز عمل الأستيل كولين وتعزيز عملية الاستمتاع.


وجزء آخر من الاختلاف، هو أنّ الأستيل كولين يرتبط بالجزء البارسيمبثاوي -اللاوديّ- من الجهاز العصبي- Parasympathetic nervous system المسؤول عن وقت الراحة والاسترخاء. وهذا يُعزز حالة الهدوء والسكون التي يستمتع بها أصحاب الانطوائية بشكلٍ عام. على عكس الانفتاحين؛ حيثُ يتَحفز لدّيهم الجزء السيمبثاوي -الودىّ- Sympathetic nervous system بشكلٍ أكبر، وهو مسؤول عن اليقظة والتركيز المُفرِط، مما يُعزز زيادة النشاط والاندفاع لدى الانفتاحين. وهذا ما يُفسر شعورَ الارتباكِ الذي يُراود الانطوائيين في المواقف التي تَتَطلب قرارات حاسمة وسريعة.


اعتز بنفسك، فأنتَ لستَ وحدك


قد يخطُر ببالك عزيزي القارئ أنّ الانطوائية قد تُمثل عائقًا أمام نجاحك وتحقيق رغباتك، وأنّ الانطوائي شخصٌ كسولٌ أو بطيء التّعلُم أو حتى مُتقاعس في عمله. ففي إحدى المحاضرات على TED لعام 2012، تم اختيار الكاتبة سوزان كين -والتي كرست حياتها للكتابة عن الانطوائية- لتتحدث عن تجربتها مع الانطوائية، وكيف عانت من سخرية الجميع منذ طفولتها لكونها شخصًا انطوائيًا. وكيف أنّ الانطوائية ساعدتها لتتخرج -بمرتبة الشرف- من كلية برينستون وهارفارد للحقوق، لتغدُو مُحامية -بجانب كونها كاتبة- وتُثبت لنفسها أنّ بإمكانها أنْ تكون مُنقتحة ومُندفعة أيضًا.


تقول كين:


لا تُوجد علاقة بين كَونك مُتحدثًا جيدًا، وكَونك تمتلك أفكارًا جيدة.


وفي إحدى اللقاءات مع بيل غيتس مؤسس شركة مايكروسوفت -والذي يقع ضِمن قائمة الانطوائيين أيضًا- عندما سُئل: كيف تَمكّن مِن النجاح كشخصٍ انطوائيٍّ في عالَم يقوده المُنفتحون؟ فكانت إجابته أنّ الانطوائيين بإمكانهم -بالفعل- القيام بعملهم على نحوٍ ممتاز عند استغلالهم لما يُميزهم -حقًا- من عمق ورزانة التفكير، والرغبة الدائمة في التأمل والبحث. وكانت تلك المميزات هي التي ساعدته في تخطيّ الصعاب التي واجهته. لذلك الانطوائية ليست بالضرورة أن تكون سلبية.


الحقيقة يا رفاق -كما يبدو- عكس ما تظنون تمامًا؛ فمعظم القادة والعظماء الذين أحدّثوا تغييرًا في التاريخ كانوا انطوائيين وكونت الانطوائية حياتهم بشكلٍ عام.


فعلى سبيل المثال:


  •  الأمريكية إليانور روزفلت واحدة مِن الزعماء السياسين الذين نادوا بحقوق الإنسان، وحازت على لقب السيدة الأولى -في العالم أجمع- إشادة بما حَققته مِن سعيٍّ في هذا المجال.

  • روزا لويس باركس الأمريكية مِن أصول أفريقية، وإحدى الناشطات اللاتي كافحن ضدَّ التّمييزِ العنصريّ، ونادت بحقوقِ الأمريكيين مِن أصول أفريقية.

  • المهاتما غاندي والذي كان بمثابة الزعيم الروحيّ للهند، ودوره السياسيّ العظيم في مُقاومة الاستبدادِ، والذي نادى بالحرية حتى ألهمَ الكثير مِن بعده.

ومن الشخصيات المؤثرة حديثًا، والذين نجحوا في حياتهم رغم الانطوائية:


  •  إيلون ماسك أحد رُواد الأعمال، والذي حقق الكثير مِن الإنجازات على كافة المستويات حتى أصبح محل حديث العالَم أجمع.

  • مارك زوكيربيرج مُؤسس الفيس بوك -أكبر موقع للتواصل الاجتماعي-، ومن ضمن قائمة الشخصيات الأكثر ثراءً حول العالَم.

  • الممثلة البريطانية إيما واتسون والتى أُشتهرت من خلال دورها في فيلم هاري بوتر، كما أنّها كانت من ضمن أكثر الشخصيات المؤثرة لعام 2011.

إلى اللانهائية وما بعدها


الانطوائية والانفتاحية: كيف فسر العلم الصراع الداخلي بينهما؟


عزيزي القارئ اسمح ليّ أنْ أَسرد بعض أفكاري هنا والتي تُمثل تجربتي الخاصة لعلها تُفيدك. نُواجه نحن الانطوائيون الكثير من التحدّيات اليومية، خاصةً في التعبير عن أنفسنا وعن احتياجاتنا غير المفهومة للبعض. أحيانًا نبذُل أضعاف الجهد الذي يبذله المنفتحون لمجرد القيام ببعض الأمور التي تبدو روتينيةً لهم كحضور المناسبات الاجتماعية مثلًا.


وكثيرًا ما نسمع جملة “يا كئيب، يا عدو الفرحة”، الأمر يبدو مُضحكًا وتضحك بالفعل، لكن مِن داخلك تبدو مُقيدًا غيرَ قادرٍ على البوح بشعورك. قد نعجز عن التفاعل مع الواقع أو العالم الخارجي، ولكن هذا لا يعني أنّنا ذوو فكرٍ مُتطرف أو مُتكبرون. على العكس، فأصحاب الانطوائية هم أكثرُ الأشخاص مرونةً وراحة في التعامل.


عزيزي الانطوائي، إنْ قبلت نفسك وأحببتها كما هي، وتعاملت مع فطرتك تلك، فهذا كفيلٌ أنْ يقودك نحو تحقيقِ أهدافك. اقض وقت فراغك بالطريقة التي تُحب، وليس بالطريقة التي تعتقد أنّها من المُفترض أنْ تكون. افهمْ نفسك بعيدًا عن صخب الحياة، لكن لا تُفوت على نفسك الكثيرَ مِن التجاربِ التي تحتاج لخوضها بعيدًا عن قوقعتك. ولا تُفوت على نفسك معرفة أشخاص جديدة -جديرين بمعرفتك- يتشاركون معك تفاصيل تلك الحياة الباهتة.