أهمية طلب العلم وفضله
العلم اللَبِنة الأولى التي يُبنى عليها الجانب الديني والدنيوي من الحياة؛ وذلك لِأنّه يُطلق عَنان التفكير للعقل فيُحرّره من قيوده وأوهامه، وتظهر أهميّته دنيويّاً في كونه السبب في نهضة الأمم ورفعتها؛ فهو يحافظ على استمرار عجلة الإنتاج ممّا يؤدي بدوره إلى القضاء على الفساد والكساد، وأمّا دينيّاً فتكمن أهميّته في كونه الأساس في كلّ عبادة من صلاة وصيام وحجّ وزكاة وغيرها؛ فالمسلم بحاجة إلى عالمٍ يُوضّح له كيفيّة أداء كلّ عبادة وما فيها من أركان وأقوال، ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ العلماء ليسوا على حدّ سواء؛ فمنهم الربّانيّون الذين لا يبتغون بعلمهم سوى نيل مرضاة الله -تعالى- ونفع المسلمين؛ فهؤلاء مَن يُؤخَذ عنهم العلم الصحيح الذي يقود للنصر والعزّة، ومنهم المُخرّبون الذين يكون علمهم لهدم الدين ووسيلة لِنيل الشهرة والمال، ومنهم السطحيّون الذين ما أخذوا من العلم إلّا قشوره وهؤلاء يؤدّون إلى نشوب الخلافات والفتن بين المسلمين التي ينجم عنها تمزّق الأمّة وتفكّكها؛ كحادثة قتل عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنهما-.
وهناك العديد من النصوص الشرعيّة الدّالة على أهميّة طلب العلم، ومنها قوله -تعالى-: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ)،
وقد وردت العديد من الأحاديث النبويّة وآثار الصحابة وأقوال العلماء الدّالة أيضا على فضل طلب العلم، ومن الأحاديث قول رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: (مَن يُرِدِ اللَّهُ به خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ)،
وقف موسى -عليه السلام- في أحد الأيام خطيباً في بني إسرائيل فسئلوه عن أعلم أهل الأرض فأخبرهم بأنّه هو أعلم من في الأرض؛ فعاتبه الله -تعالى- لِأنّه لم يُرجع الفضل إليه، وأخبره بوجود رجل صالح هو أعلم منه في مجمع البحرين؛ فسأل موسى -عليه السلام- ربّه عن كيفية الوصول لهذا الرجل، فأمره بالخروج وأن يأخذ معه حوتاً ويجعله بمكتل* وفي المكان الذي يَفقد فيه الحوت يكون الرجل الصالح؛ فانطلق موسى -عليه السلام- آخذاً معه فتاه يوشع بن نون والحوت، ولمّا وصلا إلى الصخرة غلبهما النعاس وناما؛ فخرج الحوت من المكتل وهرب إلى البحر بعد أن شرب من عين ماء موجودة في الصخرة يُقال لها عين الحياة، إذ رُدَّت له الروح فهرب لقول رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: (وفي أصْلِ الصَّخْرَةِ عَيْنٌ يُقَالُ لَهَا: الحَيَاةُ لا يُصِيبُ مِن مَائِهَا شيءٌ إلَّا حَيِيَ، فأصَابَ الحُوتَ مِن مَاءِ تِلكَ العَيْنِ - قالَ: فَتَحَرَّكَ وانْسَلَّ مِنَ المِكْتَلِ).
وقد منع الله -تعالى- جريان الماء في المكان الذي هرب الحوت من خلاله حتى لا يُمحَى أثره، وعندما استيقظ موسى -عليه السلام- تابع مسيره دون أن يتفقد الحوت قال -تعالى-: (وَإِذ قالَ موسى لِفَتاهُ لا أَبرَحُ حَتّى أَبلُغَ مَجمَعَ البَحرَينِ أَو أَمضِيَ حُقُبًا * فَلَمّا بَلَغا مَجمَعَ بَينِهِما نَسِيا حوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبيلَهُ فِي البَحرِ سَرَبًا)،
وسلّم موسى -عليه السلام- عليه وعرّف عن نفسه وأخبره بأنّه قد أتاه لِيُعلّمه؛ فعرفه العبد الصالح وهو الخضر وأخبره بأنّ الله -تعالى- قد أطلَع كلّ منهما على علم لا يعلمه الآخر فما كانت حكمته معلومة لِأحدهما لن تكون كذلك للآخر قال -تعالى-: (قالَ لَهُ موسى هَل أَتَّبِعُكَ عَلى أَن تُعَلِّمَنِ مِمّا عُلِّمتَ رُشدًا * قالَ إِنَّكَ لَن تَستَطيعَ مَعِيَ صَبرًا * وَكَيفَ تَصبِرُ عَلى ما لَم تُحِط بِهِ خُبرًا)،
وقد تفاجأ موسى -عليه السلام- باقتلاع الخضر أحد ألواح السفينة بالقدّوم*؛ فأنكر فعله الذي لا يُناسب الإحسان الذي قدّمه أهل السفينة لهما، قال -تعالى-: (فَانطَلَقا حَتّى إِذا رَكِبا فِي السَّفينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقتَها لِتُغرِقَ أَهلَها لَقَد جِئتَ شَيئًا إِمرًا)؛
ونزلا من السفينة ومشيا على الساحل حتّى شاهد الخضر غلاماً يلعب مع رفاقه فأمسك برأسه واقتلعها فقتله، قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: (فَانْطَلَقَا، فَإِذَا غُلَامٌ يَلْعَبُ مع الغِلْمَانِ، فأخَذَ الخَضِرُ برَأْسِهِ مِن أعْلَاهُ فَاقْتَلَعَ رَأْسَهُ بيَدِهِ)؛
وتابعا المسير حتّى وصلا إلى قرية رفض أهلها ضيافتيهما، فرأى الخضر فيها جداراً مائلاً يوشك على السقوط؛ فعدّل ميله وأخبره موسى -عليه السلام- لو أنّه أخذ أجراً على فعله لَتمكّنا من الحصول على الطعام الذي رفض أهل القرية تقديمه لهما، قال الله -تعالى-: (فَانطَلَقا حَتّى إِذا أَتَيا أَهلَ قَريَةٍ استَطعَما أَهلَها فَأَبَوا أَن يُضَيِّفوهُما فَوَجَدا فيها جِدارًا يُريدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَو شِئتَ لَاتَّخَذتَ عَلَيهِ أَجرًا)؛
وقتله للغلام كان لأنّه كان جاحداً بالله وكان أبواه مؤمنين فيُخشى أن يتّبعاه في دينه حبّاً به وحاجة إليه؛ فأراد الله -تعالى- أن يرزقهما بمَن هو خير منه ديناً وبرّاً، قال -تعالى-: (وَأَمَّا الغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤمِنَينِ فَخَشينا أَن يُرهِقَهُما طُغيانًا وَكُفرًا * فَأَرَدنا أَن يُبدِلَهُما رَبُّهُما خَيرًا مِنهُ زَكاةً وَأَقرَبَ رُحمًا)،
أين التقى موسى بالخضر
اختلف العلماء في المكان الذي التقى فيه موسى -عليه السلام- بالخضر على ثلاثة أقوال، وهي كما يأتي:
- مجمع البحرين، وهو المكان الذي يلتقي فيه بحر فارس شرقاً وبحر الروم غرباً وهو قول قتادة وغيره، وذهب محمد القرظي إلى أنّ مجمع البحرين في بلاد المغرب عند طنجة.
[28] - مجمع البحرين يقع في إفريقية وهو قول أبيّ بن كعب، أو في طنجة وهو قول محمد بن كعب، أو هما نهرا الكرّ والرسّ الّذَين يصبّان في البحر وهو قول السّديّ.
[29] - مجمع البحرين هما بحر الروم وهو البحر الأبيض، وبحر القلزم وهو البحر الأحمر وتُدعى المنطقة التي يلتقيان فيها بالبحيرات المرّة وبحيرة التمساح، أو أنّ مجمع البحرين في البحر الأحمر في المكان الذي يلتقي فيه خليج العقبة مع خليج السويس لأنّ بني إسرائيل عندما غادروا مصر استقرّوا في هذه المنطقة التي شهدت تاريخهم وهذا قول سيد قطب صاحب كتاب ظلال القرآن.
[30]
العبر المستفادة من قصّة موسى مع الخضر
هناك العديد من الدروس المستفادة من قصّة موسى -عليه السلام- والخضر، ومنها ما يأتي:
- الحرص على طلب العلم والاستزادة منه والرحلة إليه، وتحمّل المشاقّ والصعاب في سبيل تحصيله، والسعي للقاء العلماء،
[31] [32] [33] ومجالستهم باحترام وأدب.[34] - الحرص على عدم نسبة الأمور المكروهة كالنسيان إلى الله -تعالى- تنزيهاً له وتأدّباً معه، حتّى وإن كان مُقدّراً منه، وضبط النفس على تَقبُّل عذر الناسي تجمُّلاً بالأخلاق العالية لا سيّما أنّ النسيان قد ورد في حقّ الأنبياء -عليهم السلام-.
[31] [32] [34] - الحرص على تقديم مشيئة الله -تعالى- على كلّ ما ينوي العبد القيام به بقول: "إن شاء الله".
[31] [34] - مشروعية الإفصاح عن التعب والشعور بالألم والمرض ونحوهما على ألّا يُرافق ذلك ما فيه تسخُّط وعدم رضا بالقضاء والقدر.
[32] - مشروعيّة طلب الضيافة والطعام حال الحاجة ولا مذمّة في ذلك،
[31] [32] [34] والحرص على عدم ترك فعل الخير والإحسان في حقّ مَن اتّصف بالبخل و اللئم في التعامل.[31] - مشروعية إلحاق الضرر والتعييب بمال الغير إن كان خياراً لِتفويت ما هو أشدّ منه ضرراً.
[31] [34] - مشروعية التّزوّد بالطعام والشراب حال السفر حيث أنّ ذلك لا يتصادم مع عقيدة التوكّل.
[31] [34] - تواضع التلميذ لِمعلّمه حال كونه أكثر أو أقل مرتبة منه، وإفصاح المعلّم لِتلميذه حال امتناعه عن تعليمه ما يُخشى عليه في عدم تحمّله.
[31] - سعي العبد إلى كلّ ما فيه مرضاة الله -تعالى- من طلب علم ونحوه، كما ويُؤمّن لنفسه الإعانة والقوّة؛ فلا يَحلّ عليه التعب والإعياء سريعاً.
[32] - توجّه المسكين إلى عمل معيّن أو امتلاكه شيئاً يكسب منه رزقه الذي لا يكفي لسدّ احتياجاته لا يُخرجه من دائرة المسكنة.
[31] - الجرأة في قول الحقّ وإنكار المنكر كما فعل موسى -عليه السلام- بإنكار أفعال الخضر ظنّاً منه أنّها منكرة.
[34] - قصّة موسى -عليه السلام- لم تُذكَر في القرآن الكريم فحسب، إنّما في الأحاديث النبويّة الصحيحة التي احتوت على معلومات إضافية أيضاً.
[34] - ارتكاب المرء جرماً معيّناً في حقّ مَن أحسن إليه يجعل جرمه أكثر سوءاً.
[34] - جواز حفظ المال وتوفيره في حقّ المسلم بشرط عدم التساهل في إخراج زكاته.
[31] [34]
الهامش
*مكتل: وعاء مصنوع من أوراق النخل لحمل التمر وغيره.
*القدّوم: أداة تستخدم في النجارة ونحت الخشب.
المراجع
- 1 - فتحي حمادة (29-1-2013)، " فضل العلم وأهميته " , www.alukah.net , فتحي حمادة (29-1-2013)، .
- 2 - سورة الزمر، آية: 9. .
- 3 - رواه الألباني، في صحيح ابن ماجه، عن أبي الدرداء، الصفحة أو الرقم: 183 ، صحيح. .
- 4 - ذياب الغامدي (1429ه - 2008م)، <i> " المنهج العلمي لطلاب العلم الشرعي " , (الطبعة الرابعة)، صفحة 15-16 , ذياب الغامدي (1429ه - 2008م)، .
- 5 - سورة فاطر، آية: 28. .
- 7 - سورة المجادلة، آية: 11. .
- 8 - وزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية، <i> " الموسوعة الفقهية الكويتية " , (الطبعة الأولى)، مصر: دار الصفوة، صفحة 80، جزء 29 , وزارة الأوقاف والشؤون الاس .
- 9 - رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن معاوية بن أبي سفيان ، الصفحة أو الرقم: 71، صحيح. .
- 10 - رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبيّ بن كعب، الصفحة أو الرقم: 4727، صحيح. .
- 11 - ابن كثير (1407ه - 1986م)، <i> " البداية والنهاية " , ، بيروت: دار الفكر، صفحة 296-299، جزء 1 , ابن كثير (1407ه - 1986م)، .
- 12 - سورة الكهف، آية: 60-61. .
- 13 - سورة الكهف، آية: 62-63. .
- 14 - سورة الكهف، آية: 64-65. .
- 15 - سورة الكهف، آية: 66-68. .
- 16 - سورة الكهف، آية: 69-70. .
- 17 - سورة الكهف، آية: 71. .
- 18 - سورة الكهف، آية: 72-73. .
- 19 - رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبيّ بن كعب، الصفحة أو الرقم: 4725 ، صحيح. .
- 20 - رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبيّ بن كعب، الصفحة أو الرقم: 122 ، صحيح. .
- 21 - سورة الكهف، آية: 74. .
- 22 - سورة الكهف، آية: 75-76. .
- 23 - سورة الكهف، آية: 77. .
- 24 - سورة الكهف، آية: 78. .
- 25 - سورة الكهف، آية: 79. .
- 26 - سورة الكهف، آية: 80-81. .
- 27 - سورة الكهف، آية: 82. .
- 28 - ابن كثير (1420ه - 1999م)، <i> " تفسير القرآن العظيم " , (الطبعة الثانية)، الرياض: دار طيبة، صفحة 174، جزء 5 , ابن كثير (1420ه - 1999م)، .
- 29 - السيوطي، <i> " الدر المنثور في التفسير بالمأثور " , ، بيروت: دار الفكر، صفحة 423، جزء 5 , السيوطي، .
- 30 - مجموعة من المؤلفين (1423ه - 2002م)، <i> " الموسوعة القرآنية المتخصصة " , ، مصر: المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، صفحة 762 , مجموعة من المؤلفين (1423ه - 2002 .
- 31 - السيوطي (1401ه - 1981م)، <i> " الإكليل في استنباط التنزيل " , ، بيروت: دار الكتب العلمية، صفحة 171 , السيوطي (1401ه - 1981م)، .
- 32 - ابن حجر العسقلاني (1379ه)، <i> " فتح الباري شرح صحيح البخاري " , ، بيروت: دار المعرفة، صفحة 422، جزء 8 , ابن حجر العسقلاني (1379ه)، .
- 33 - حسن الزهيري، <i> " دروس الشيخ حسن أبو الأشبال " , ، صفحة 5، جزء 9 , حسن الزهيري، .
- 34 - (قصة موسى مع الخضر) دروس وفوائد وعبر , ar.islamway.net , 26-3-2014، 6-8-2020. بتصرّف. .
- 35 - تعريف و معنى مكتل في قاموس الرائد , www.almaany.com , 17-8-2020. بتصرّف. .
- 36 - تعريف و معنى القدوم في معجم المعاني الجامع , www.almaany.com , 17-8-2020. بتصرّف. .