أثر الذُّنوب والمعاصي
تميَّزَ الإنسانُ عن غيرِه من الكائناتِ بِنعمةِ العقلِ الذي هو مِنحةُ اللهِ للتّفسيرِ والتَّحليلِ والاختيار، فكانَ التَّكليفُ للإنسانِ مُرتبطاً بِوعيِهِ وتمييزِهِ وحُضورِ عَقلِه، فما كانَ من الأعمالِ بِغيابِ العَقلِ فلا ميزانَ له، وإنَّما تُقاسُ الأعمالُ بتحقُّقِ الرُّشدِ والتَّمييز، فتُفرَضُ الفُروضُ وتُستَرُ العوراتُ وتوظَّفُ القُدُراتُ وتُقبَلُ العُقود. وقد جُبِلَ الإنسانُ في خَلقِهِ على حبِّ الدُّنيا والإقبالِ عليها وعلى شَهواتِها، وهذا الطَّبعُ البَشريُّ أمرٌ فِطريٌّ لا قِبَلَ للإنسانِ بكبحِهِ أو التطهُّرِ منه والتَّداوي من تأصُّلِه، إلَّا أنَّهُ يَملِكُ اختيارَ البُعدِ عنهُ والتعفُّفِ عن حرامِهِ والتنزُّهِ عن آثامِه، ذلك أنَّ الله ما حرَّمَ من الشَّهواتِ إلَّا خبيثُها، وما حرَّمَ منها إلَّا أبدَلها بطُهر، فيختارُ المُكلَّفُ ما يشاءُ بالحلالِ فيجُزى، ويختارُ بالحرامِ ما يشاءُ فيُجزى، فلا يَخلو آدميٌّ من الذُّنوبِ والمَعاصي، مهما تدافعَ إلى الابتِعادِ عنها، وفي سيرةِ الرَّسول عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: (كلُّ ابنِ آدمَ خطَّاءٌ، وخيرُ الخطًّائينَ التَّوَّابونَ).
وفي البعد عن الممعاصي شُمولٌ بلا استِثناء، وإنَّما كانَ ذلِك لِعلمِهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِفطريَّةِ هذا الأمر وتميِّزِ البَشَرِ به، ولولاهُ لكانوا مَلائكةً مَنزوعي الشَّهوةِ، وإنَّما ذلكَ إبتِلاءٌ واختِبار، وفي قولِهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام: (والذي نفسي بيدِهِ لو لم تُذنبوا لَذَهَبَ اللهُ بكم، ولَجاء بقومٍ يذنبون، فيستغفرون اللهَ، فيغفرُ لهم)،
كبائر الذّنوب
تَختَلِفُ الذُّنوبُ والمعاصي في وَقعِها في النَّفس وفي نتيجَتِها والأضرار المُترتِّبة عليها، ومهما كان، فإنَّها تَشتَرِكُ في كونِها خطأ العَبدِ لِمقامِ ربِّه، ويَتَّفِقُ العُلماءُ على تصنيفِ الذّنوبِ في صنفينِ؛ ذنوبُ الصَّغائِرِ، والكبائر، وفي أسمائها دلالاتٌ تقودُ إلى المَعنى، فالكَبائرُ جمعُ الكبيرة، ومعناها العظيمُ من الذُّنوب، وفي ذلكَ تعظيمٌ لأمرِها وتنبيهٌ لِخطَرِها وما يَترتَّبُ عليها أو يَجنيهِ العَبدُ مِنها، وقَد ذَكَرها اللهُ تَعالى في القرآن الكريم فقال: ﴿ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا ﴾،
ماهي الكَبائر
قيلَ في الكبائِرِ أنَّها ما اختُتِمَ بعدَ ذِكرِهِ بنارٍ أو لَعنةٍ أو غَضبٍ أو عَذاب، وقيلَ فيها أقوالٌ كثيرةٌ، منها أنَّها ما اتَّفقت الشَّرائعُ على تجريمِه، أو هي ما عُصِيَ الله به، أو هيَ ذُنوبُ العَمد، وقيلَ هيَ ما استَباحَهُ العَبدُ بقصدٍ، وقيلَ الشِّرك كبيرةٌ وما عداهُ صغائر، وأبرزُ ما اجتَمعَ عليهِ السَّلَفُ في فَهمِ الكَبائرِ وتَعريفها أنَّها ما يُوجِبُ الحدّ في الدُّنيا والسَّخطَ في الآخرة، وما أتبَعَهُ اللهُ بالوَعيدِ والغَضبِ والتَّهديدِ واللَّعن. أمَّا تِعدادُها فقيلَ فيه أيضاً أقوالٌ كَثيرة، فقيلَ بِحصرِها بأعدادٍ معلومة، وفي ذلك قيلَ أربَع، وقيلَ سبع، وقيلَ تسع، وقيل إحدى عَشر، وزادَ آخرونَ بقولِ إنَّها أقرَبُ إلى السبعمائةِ من السَّبع، وذلكَ قولُ ابن العبَّاسِ رضي الله عنه، وفيها قالَ آخرونَ بأنَّها لا تُحصَرُ بِعددٍ، واستَندوا بذلك لِعدَمِ وجودِ دليلٍ من القرآنِ والسُّنةِ يُفيدُ حَصرها في عددٍ.
وقد أتت الأحاديثُ بِتِبيانِ بَعضِ الكَبائِرِ والإشارةِ إليها، ومن ذلك تِسعٌ أخبرَ عنها سيَّدُ البشريَّة، قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في حجَّةِ الوداعِ (إنَّ أولياءَ اللهِ المصلُّون ومن يقيمُ الصَّلواتِ الخمسَ الَّتي كتبهنَّ اللهُ عليه، ويصومُ رمضانَ، ويحتسِبُ صومَه، ويؤتي الزَّكاةَ محتسبًا طيِّبةً بها نفسُه، ويجتنبُ الكبائرَ الَّتي نهَى اللهُ عنها. فقال رجلٌ من أصحابِه: يا رسولَ اللهِ، وكم الكبائرُ؟ قال تسعٌ، أعظمُهنَّ الإشركُ باللهِ، وقتلُ المؤمنِ بغيرِ حقٍّ، والفِرارُ من الزَّحفِ، وقذفُ المُحصَنةِ، والسِّحرُ، وأكلُ مالِ اليتيمِ، وأكلُ الرِّبا، وعقوقُ الوالدَيْن المسلمَيْن، واستحلالُ البيتِ الحرامِ قِبلَتِكم أحياءً وأمواتًا. لا يموتُ رجلٌ لم يعملْ هؤلاء الكبائرَ، ويقيمُ الصَّلاةَ، ويؤتي الزَّكاةَ إلَّا رافق محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في بحبوحةِ جنَّةٍ أبوابُها مصاريعُ الذَّهبِ).
وقد صحَّ عن رَسولِ الله عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ذكرُ الشِّركِ بالله كأعظَمِ الكَبائرِ عند الله؛ وذلك لِكونِه الذَّنبُ الذي لا يُغفرُ بغيرِ التَّوبةِ منه والبراءة، ثمَّ أتبَعَ ذلكَ قتلَ الوَلدِ خشيَةَ الفَقرِ أو المشاركةِ في الإنفاق، ثمَّ الزِّنا بزوجةِ الجار، (قال رجلٌ: يا رسولَ اللهِ، أيُّ الذنبِ أكبرُ عندَ اللهِ؟ قال: أن تَدعوَ لله ندًا وهو خلَقَك. قال: ثم أيُّ ؟ قال: ثم أن تَقتَلَ ولدَك خشيةَ أن يَطَعَمَ معك. قال: ثم أيُّ؟ قال: ثم أن تُزانِيَ بحليلةِ جارِك. فأنزلَ اللهُ- عز وجل- تصديقَها : والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك. الآية).
وفي ذِكر هذهِ السَّبعُ اشتراكٌ في التعدِّي من أذى الذَّاتِ إلى إلحاقِ الضَّررِ بالغيرِ، وفيها فَسادُ المُجتمعِ وخرابه، وإفشاءُ الظُّلمِ وهوانُ الحقَّ، فتختلِطُ المَفاسِدُ فيهِ لِتعمِلَ فيه التَّفكُّكَ والضَّعف.
المراجع
- 1 - رواه ابن القطَّان، في الوهم والإيهام، عن أنس بن مالك، الصفحة أو الرقم: 5/414 . .
- 2 - رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم: 2749. .
- 3 - لماذا كَثُر الخطأ من الإنسان , إسلام ويب .
- 4 - سورة النساء، آية: 31. .
- 5 - الجامع لأحكام القرآن , ، صفحة 158، جزء 5 , محمد القرطبي، .
- 6 - الكبائر وحكم مرتكبها , شبكة الألوكة .
- 7 - رواه المنذري، في الترغيب والترهيب، عن عمير بن قتادة الليثي، الصفحة أو الرقم: 2/268. .
- 8 - رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عبدالله بن مسعود، الصفحة أو الرقم: 6861، خلاصة حكم المحدث : [صحيح]. .
- 9 - من روى عن النَّبي من الصحابة في الكبائر , ، صفحة 69-73 , أبو بكر البرديجي، .
- 10 - رواه الألباني، في صحيح أبي داوود، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم: 2874. .
- 11 - الزواجر عن اقتراف الكبائر , ، صفحة 62-73 , أبو العباس أحمد السعدي، .
- 12 - الكبائر , ، صفحة 3، جزء 1 , محمد بن عبدالوهاب، .